الوحدة الفلسطينية- فرصة جديدة في ظل التحديات الوجودية؟

المؤلف: طارق حمود10.15.2025
الوحدة الفلسطينية- فرصة جديدة في ظل التحديات الوجودية؟

أعلنت السلطة الفلسطينية الحداد الوطني إثر وفاة القائد البارز إسماعيل هنية، رئيس حركة حماس ورئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق، حيث عَمَّ الحزن الأراضي الفلسطينية وتوشحت الأعلام بالسواد. وفي أعقاب هذا الحدث الجلل، تم اختيار السنوار لقيادة حركة حماس، مما أثار تساؤلات حول مستقبل الحركة وتوجهاتها. يترقب الجميع باهتمام بالغ تداعيات هذه المرحلة الانتقالية، وما إذا كانت المصالحة الوطنية المنشودة، والتي تم التوقيع على آخر اتفاقاتها في العاصمة الصينية بكين، ستشق طريقها نحو التحقيق على أرض الواقع، أم ستبقى مجرد ذكرى باهتة كسابقتها، مجرد صورة تذكارية تجمع بين الخصوم.

مرة تلو الأخرى، يخلق الواقع الفلسطيني المتردي ظروفًا استثنائية تمنح كافة الأطراف فرصة ذهبية لإظهار حس وطني رفيع المستوى والعمل بجد وإخلاص من أجل تحقيق الوحدة الوطنية الشاملة. لقد كان اغتيال هنية بمثابة الشرارة التي وحدت الصفوف وجمعت الفرقاء الفلسطينيين تحت راية واحدة، حيث عبروا عن مواقف موحدة وخطاب سياسي متناسق. فقد تقدم قادة حركة فتح صفوف المشيعين في جنازة هنية التي أقيمت في الدوحة، وألقوا كلمات تعزية ومواساة لم تختلف في جوهرها ومضمونها عن تلك التي تفوه بها قادة حركة حماس والجهاد الإسلامي والفصائل الوطنية الفلسطينية الأخرى ومنظمة التحرير الفلسطينية.

وعلى الرغم من ذلك، غالبًا ما تتلاشى تلك الفرص المتكررة التي تسنح لتوحيد الصفوف وإرساء قاعدة صلبة للوحدة الوطنية، وذلك بمجرد العودة إلى أجواء الاستقطاب الحاد والشروط السياسية المعقدة التي تنجم عن خلافات عميقة. لقد بات من الصعب التصديق بأن هذه الخلافات يمكن أن تكون أقوى وأعتى من الظروف المأساوية الراهنة، التي تجعل الجميع تحت رحمة الاحتلال الغاشم.

آفاق تحقيق المصالحة

إن آفاق تحقيق المصالحة الفلسطينية المنشودة ترتبط بشكل وثيق بقناعات راسخة لدى الأطراف المعنية، ليس فقط بأهمية المصالحة وضرورتها، بل أيضًا بإدراك حجم التحديات الوجودية الهائلة التي تواجه كل طرف على حدة:

  • فمن جهة حركة حماس، تمثل الحرب الدائرة حاليًا على قطاع غزة، والتي تهدف بشكل سافر إلى القضاء عليها كقوة مسلحة، أحد أخطر التهديدات المصيرية التي تواجهها الحركة طوال مسيرتها النضالية. فلم تتعرض حماس طوال تاريخها لحملة إبادة بهذه الشراسة والضراوة، بل إن الحركة الوطنية الفلسطينية بأكملها لم تشهد مثل هذه المواجهة الوجودية في تاريخها الطويل. وفي ظل الغموض الذي يكتنف سؤال "اليوم التالي" لما بعد الحرب، فإن حركة حماس معنية بشكل كبير بتحقيق وحدة وطنية شاملة، وتقديم نفسها كإجابة طبيعية ومنطقية للمرحلة الراهنة.
  • أما بالنسبة لحركة فتح التي تقود السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فلا يبدو التحدي أقل خطورة وشراسة. فالسلطة الفلسطينية بأكملها باتت هدفًا مباشرًا للتصفية من قبل حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة. فلا جدوى من سلطة تنبثق عن اتفاق سياسي يصر طرفه الآخر على منع تطوره إلى دولة مستقلة ذات سيادة. وهذا ما صوت عليه الكنيست الإسرائيلي قبل أسابيع، بتعهده الصريح بعدم السماح بقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية لنهر الأردن. بمعنى آخر، فإن المؤسسة الاحتلالية بأكملها تقف بالمرصاد ضد فكرة الكيانية الفلسطينية بأي شكل من الأشكال، حتى في ظل التعاون الأمني القائم. هذه النوايا الخبيثة تنبع من فكرة الاستعمار الاستيطاني القائم على الإلغاء والإنكار التام لوجود الفلسطينيين كشعب له حقوقه الوطنية المشروعة. وقد تجلى هذا بوضوح في رفض نتنياهو القاطع فكرة تولي السلطة الفلسطينية إدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب.

أين وصلت جهود المصالحة؟

من هذا المنطلق، فإن تعثر مسار المصالحة الوطنية واتفاقاتها المختلفة يعود إلى حالة من الشعور الزائف والمؤقت بالأمن والاستقرار لدى أطرافها، أو لدى أحد هذه الأطراف على الأقل، بالإضافة إلى توقع حدوث انفراجات سياسية من شأنها أن تعزز موقف طرف على حساب طرف آخر. تقف كافة جهود المصالحة عند حدود القناعة الراسخة بإمكانية الاحتكار المنفرد للمشهد السياسي، والعجز التام عن تشكيل قناعات حقيقية بالشراكة الوطنية، إلا في حدود البلاغة الخطابية والشعارات الجوفاء.

الوضع الراهن لا يضع طرفي المصالحة في كفة واحدة بأي حال من الأحوال، وليس الهدف هنا تقييم انحيازات كل طرف للمصلحة الوطنية العليا والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. لكن الفلسطينيين لطالما انشدوا إلى مقاربة معتدلة تجمع بين العقلانية السياسية والالتزام الراسخ بثوابت التحرر الوطني. لطالما اصطدمت جهود الوحدة الوطنية بمن يريد أن يصبح دولة قبل أن يتحرر، أو بمن يريد أن يحرر بالمواجهة الصفرية التي لا تقبل الحلول الوسط.

لم تكن هذه المقاربات مطلقة وثابتة طوال الوقت، خاصة فيما يتعلق بقناعات المعسكر الثاني. فقد وفرت الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2006 فرصة نادرة لتبني مقاربة وسطية تسعى إلى التحرر الوطني باعتباره الطريق الأمثل نحو الدولة المستقلة. وانخراط حركة حماس في السلطة التنفيذية مثل اقترابًا نوعيًا نحو خط الوسط، واستمر طوال الفترات اللاحقة التي اختبرت فيها الحركة إكراهات الحكم والسياسة في قطاع غزة. والمفارقة العجيبة أن الانقسام الفلسطيني بدأ منذ لحظة الاقتراب تلك، حيث بات عنوان المصالحة الفلسطينية، بما يحمله من معاني الوحدة على أسس وطنية سليمة، المسعى الفلسطيني الأكبر والأسمى، ولا يزال كذلك حتى يومنا هذا.

هل سيشهد اتفاق الصين خطوات عملية ملموسة؟

لقد بدا "إعلان بكين"، الذي ظهر في صورة نص أكثر جودة وإحكامًا مقارنة بغيره من النصوص السابقة، متأثرًا بالأجواء المشحونة والشعور العام بالخطر الذي يتربص بالقضية الفلسطينية. ومع ذلك، لا يبدو أن اتفاق بكين قد حصل على الشروط الكافية التي تضمن تحوله إلى واقع ملموس على الأرض. وقد يرتبط ذلك بالظروف الفلسطينية المعقدة وما تفرزه من مواقف وقناعات لدى أطراف المصالحة، بالإضافة إلى موقع الصين ذاته من هذا الملف الشائك.

وعلى الرغم من أن الصين تعتبر قوة عظمى ودولة ذات نفوذ كبير وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، إلا أنها لا تمتلك أوراق الضغط اللازمة لحسم الملف الفلسطيني. وفي الوقت الذي فشلت فيه اتفاقات تم التوصل إليها في دول إقليمية محورية، فإن الرهان على اتفاق الصين قد يبدو ضربًا من التفاؤل المفرط. وينبغي في هذا الصدد تحليل دوافع الصين للانخراط في الملف الفلسطيني في هذا الظرف الحرج والدقيق.

تسعى الصين للانخراط في ملف الحرب الدائرة في غزة دون المساس بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهو المبدأ الذي تستند إليه سياستها الخارجية في منطقة الشرق الأوسط. مثل هذا الانخراط يستدعي بالضرورة نسج سياسة اتصال وتواصل فعال مع أطراف الصراع، وخاصة مع حركة حماس. ولكي لا يُفسر هذا الاتصال على أنه دعم لحماس وما قامت به في السابع من أكتوبر، اختارت بكين ملف المصالحة الفلسطينية كبوابة لدبلوماسيتها النشطة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا ترغب الصين بالانخراط في هذا الملف الشائك أصلًا؟

منذ تدخل الحوثيين في الحرب، تأثرت طرق إمداد الطاقة والتجارة الصينية بشكل ملحوظ، حيث يمر عبر مضيق باب المندب حوالي 60% من الصادرات الصينية المتجهة إلى أوروبا. وبما أن الصين أصبحت الشريك التجاري الأكبر لدول الخليج، وتحصل على حوالي 50% من وارداتها النفطية من دول مجلس التعاون الخليجي، فإن اتساع رقعة الصراع وتصاعد حدته يشكل قلقًا إستراتيجيًا كبيرًا للصين، وخطرًا محتملًا على إمدادات اقتصادية حيوية.

وكانت الصين قد علقت حركة ناقلات الحاويات من وإلى إسرائيل منذ بداية هذا العام؛ نتيجة التوتر المتزايد في مضيق باب المندب. بمعنى آخر، فإن المصالحة الفلسطينية مطلوبة كبوابة لانخراط الصين مع حركة حماس تحديدًا، وليست هدفًا في حد ذاتها.

وقد تكفي هذه الخلفية للإجابة عن سؤال الأفق المتوقع والخطوات العملية لتنفيذ اتفاق بكين، دون أن يقلل هذا التفسير من الجهد المبذول والنوايا الحسنة الصينية، التي، في أقل تقدير، أظهرت رغبة صادقة في إنهاء الانقسام الفلسطيني المرير، الذي قد يبقى محكومًا بديناميات الشعور الزائف بالاطمئنان السائد لدى السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة